إخواني وأخواتي، أبنائي وبناتي:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فلقد بدأ العامُ الهجريُّ 1428 أمس، وإنّي لأسأل الله أن يجعلَه عامًا مباركًا تتحقَّق فيه العزَّة للمسلمين، وذلك بأن يعودوا إلى ربِّهم، ويَعوا واقعَهم، ويعملوا ليوم المعاد، يومَ لا ينفع مالٌ ولا بنونَ إلاَّ من أتى الله بقلب سليم، وأسأله سبحانه أن ينصُرَهم على عدوِّهم الشرس المتوحِّش إنَّه سبحانه سميعٌ مجيب.
لقد مضى على هجرة الرسول العظيم ألفٌ وأربعُ مئةٍ وثمانيةٌ وعشرون عامًا، ومضى خلال ذلك تاريخٌ طويل فيه أمجادٌ وبطولات وانتصارات، وفيه فُتوحٌ علميَّة وفكريَّة وحضاريَّة رائدة، قدمَتها أمة الإسلام للإنسانيَّة.
والهجرةُ النبويَّة من مكَّة إلى المدينة حدثٌ عظيم؛ إذ كانت الهجرةُ الخطوةَ المتقدمة لقيام الدولة الإسلاميَّة التي حملت رسالةَ الله الخاتمة، وقامت بتبليغها إلى الدنيا كلِّها، واستمرَّت الدولُ التي تلت دولةَ الرسول والخلفاء الراشدين في أداء هذه المهمَّة.
إن الدولَ التي جاءت من الأمويِّين والعباسيِّين والعثمانيِّين وغيرهم كانت تعمل في نشر دين الله على مدٍّ وجَزر، والحربُ سِجال وهذا شأن الدنيا.
إنَّ التاريخَ الهجري عنصرٌ من عناصر هُويَّة أمَّتنا.. نَعَمْ التأريخُ والتوقيتُ واللباسُ وطِرازُ العمران وقبل ذلك كلِّه العقيدة.. هذه أهمُّ العناصر التي تكوِّن هُويَّةَ الأمَّة.
وقد ظلَّت أمتنا المجيدة محافظةً على هذه المقوِّمات، حتَّى داهمَنا الغزو الفكريُّ الماحق، والاستعمار الماديُّ والمعنويُّ المدمِّر، وصار ينتقص من تلك المقوِّمات، يريد أن نذوبَ في الآخَرين، وألا تكونَ لنا شخصيَّة متميِّزة.
ويؤسفُني أن أقولَ: إنَّ الحِقبَة الأخيرةَ من القرن الهجريِّ المنصرم شهدَت تنازلَ كثير من البلاد الإسلاميَّة عن التاريخ الهجري، وأضحت تلك البلادُ تؤرِّخ أحداثَها السياسيَّة والاجتماعيَّة ومعاملاتها الرسميَّة بالتأريخ الميلادي وهذا أمر مؤلمٌ ومؤسف.
إنَّ ذكرياتنا وأمجادَنا كلَّها مسجَّلة بالتاريخ الهجريِّ القمريِّ، وإنَّ كثيرًا من أحكام ديننا مرتبطةٌ بالتقويم القمريِّ، الذي هو الأساسُ في التاريخ الهجريِّ؛ كالصِّيام والحجِّ والزكاة، وعِدَّة الوفاة وعِدَّة الطلاق، وغير ذلك، ولقد أكرم الله هذه المملكةَ فحافظت على هذا.
وإنَّ من الواجب على أهل العلم والرأي التنبيهَ على ضرورة المحافظَة عليه والاعتزاز به؛ نقل السَّخاويُّ عن العِماد الأصبهانيِّ الشافعي قوله: (فليست أمَّةٌ أو دولة إلاَّ ولها تاريخٌ يرجعون إليه، ويُعوِّلون عليه، ينقُله خَلَفُها عن سَلَفِها، وحاضِرُها عن غابِرها، تُقيَّد به شَواردُ الأيام، وتُنصَب به مَعالمُ الأعلام، ولولا ذلك لانقَطَعَت الوُصَل، وجُهِلَت الدول... وإنَّ التاريخَ بالهجرة نسخَ كلَّ تاريخ متقدِّم)[1].
وكلَّما كانت الأمَّةُ محافظةً على هُويَّتها كانت متميِّزة عن الأمم الأُخرى، وكانت أقدَرَ على أن تحيا وَفْقَ مبادئها ومُثُلها، وأن تنشرَ هذه المبادئَ والمُثُل.
وإنَّ هذا الأمرَ مهمٌّ جدا، وأودُّ أن أذكرَ حادثة لا يمكن أن أنساها، كانت من نحو خمسينَ سنةً:
فقد دخلتُ فصلًا في مدرسة ثانويَّة في بلد عربي، فوجدتُ على السَّبُّورة التاريخَ الميلادي مكتوبًا؛ فقلت للطلاَّب: هذا التاريخُ المكتوب على السَّبُّورة هو تاريخُ أوربا، ونحن لنا تاريخٌ خاصٌّ بنا، وهو التاريخُ الهجريُّ، وطلبت منهم أن يكتبوه فوقَ التاريخ المكتوب، فلم يعرف أحدٌ منهم الشهرَ الذي نحن فيه، ولا السنة! فقلتُ لهم: انظروا في أنفسكم، وتأمَّلوا كم أنتم مضيِّعون لهُويَّتكم.. إنه لأمرٌ مؤسف، ثمَّ ذكرتُ لهم تاريخَ اليوم واسمَ الشهر والسنة.
إنّ كثيرًا من الناس في بعض بلاد المسلمينَ لا يعرفون تاريخنا إلا إذا حلَّ رمضان أو جاء العيد!!
إخواني وأخواتي:
إننا نودِّع عامًا ونستقبل عامًا جديدًا، لقد كَبِرنا سنةً، ومضَت سنةٌ من أعمارنا ودنَونا من آجالنا التي كتب الله لنا؛ أفلا يَجدُر بنا أن نقفَ وقفة تأمُّل ومحاسبة؛ نُحاسب فيها أنفُسَنا، ونُراجع فيها رصيدَنا من الحسَنات، وما كَسَبت أيدينا من السيِّئات، كما نفعل في المشروعات الاقتصاديَّة.
هل أدَّينا ما علَينا من واجبات؟ وهل اتَّصَفنا بالصِّفات والمكارم التي يدعو إليها الإسلام؟ هل تخلَّينا عن كثير من النقائص والمخالفات الشرعيَّة؟
هل شعرنا بمسؤوليَّتنا نحو أُسَرنا، من آباء وأمَّهات، وأولاد وزوجات، وإخوة وأخوات، ونحو من نُخالطُهم من طلاَّب وطالبات، وأصدقاءَ وصديقات، وأقاربَ وقريبات؟
إنَّ هذه المحاسبةَ الموضوعيَّة المنصِفة هي الخطوةُ المتقدِّمة في طريق الصَّلاح.
فلنواجِه أنفسَنا بالحقيقة ولو كانت مُرَّة، ولنعلَم أننا الآنَ قادرون على تَلافي ما مَضى، ويُفيدنا النقد الذاتيُّ لننطلقَ في طريق الإصلاح والتَّقويم.
أما إذا بلغَت الروحُ الحُلقُومَ، أو قام الناسُ لربِّ العالمين؛ فلن تفيدَ التوبة، ولا يتحقَّق رجاءُ العودة إلى الدنيا؛ قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَْبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَْمْثَالَ} [إبراهيم: 42- 45].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9- 11].
أيها الإخوة والأخوات:
إنَّ الوقتَ هو رأسُ مال المسلم، فاحذَروا أن تضيِّعوه فتكونوا من المفلسين، والوقتُ يمضي ولا يتوقَّف، فإن لم تملأه بالخير أضَعتَ شيئًا ثمينًا.
إنَّ حلولَ العام في هذه الأيام ليُذكِّرنا بالهجرة، وهي من أعظَم ذكرياتنا الخالدة المباركَة التي غيَّرت واقعًا سيِّئًا، وأنهت عُهودًا مظلمة، وبدأت عهدًا مُشرقًا، وأقامت حضارةً وارِفَةَ الظِّلال.
كانت حادثةُ الهجرة في الثاني عشرَ من ربيع الأوَّل على أرجَح الأقوال، وفي السنة السادسةَ عشرةَ من الهجرة كتب سيِّدنا عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه وأرضاه التاريخَ، وهو أوَّل من كتبه.
وتَذكُر كتب التاريخ[2] أنه طُرحت أمامه اقتراحاتٌ متعدِّدة:
- منها أن يؤرِّخوا بتاريخ الفُرس.
- ومنها أن يؤرِّخوا بتاريخ الرُّومان.
- ومنها أن يؤرِّخوا اعتبارًا من مولد الرسول صلى الله عليه وسلم.
- ومنها أن يؤرِّخوا من مَبعَثه.
- ومنها أن يؤرِّخوا من وَفاته.
ولكنَّ أمير المؤمنين عمرَ العظيم استحسن أن يؤرِّخَ من هجرته لعِظَم شأن الهجرة، وكان ذلك، ووافقَه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
فلنَحرِص على الالتزام بالتأريخ الهجريِّ.
والحمد لله رب العالمين.
=========================
[1] انظر: (الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ التاريخ) للسخاوي ص45.
[2] انظر: (البداية والنهاية) لابن كثير 3/ 206- 207 و7/ 74.
الكاتب: د. محمد بن لطفي الصباغ.
المصدر: موقع الألوكة.